قصة الإسلام
مقدمة
بدأت أحداث هذه الفتنة الكبرى قبل وفاة عثمان بن عفان t، بعد أن افترى أهل الفتنة المطاعن عليه t، وعلى ولاته، وقد أتى أهل الفتنة بأنفسهم إليه t، وجادلوه، وغلبهم t، وعلا عليهم في المجادلة، وبعد أن اتفقوا على الصلح، وتوجهوا إلى بلادهم، رجعوا مرةً أخرى بعد أن وصلتهم الخطابات المزورة، وحاصروا بيت عثمان t، وقتلوه، وذكرنا ملابسات هذا الأمر، وموقف الصحابة رضي الله عنهم منه.
وقفة مهمة
هذه بعض النقاط المهمة التي تشير إلى هذا الأمر بشيء من التفصيل:
ربما نرى الآن الأمور واضحة، والحق مع فلان، وفلان على خطأ، وربما نتساءل: لماذا لم يأخذ فلان بهذا الرأي مع وضوحه في نظرنا أنه الصواب؟
لكن ما ينبغي أن يُقال في هذا المقام أن كلًّا من الصحابة كان له ثِقَلُهُ، ومكانته، وقدره في الإسلام، فعلي بن أبي طالب t أفقه أهل الأرض في ذلك الوقت، والزبير بن العوام حواريّ رسول الله r، وطلحة بن عبيد الله الذي كان يُسمى طلحة الخير له قدره، ومكانته في الإسلام، والسيدة عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين كان لها مكانتها، ولها أيضًا رأيها، وهكذا نجد أن مجموعة من أعلم أهل الأرض، وفقهائها في كل العصور يقول كل منهم رأيه حسب اجتهاده، وما من شك أن هؤلاء رضي الله عنهم هم أتقى أهل الأرض في زمانهم.
ومع العلم، والفقه، والتقوى، وهذه الصفات الحميدة التي كانوا عليها، إلا أن رأي كل منهم بعد اجتهاده، وتدقيقه، وفقهه، وتقواه يختلف عن رأي صاحبه الذي يعاصره، فما بالنا نحن الذين نريد أن نحكم على الأحداث بعد ألف وأربعمائة عام من وقوعها مع الأخذ في الاعتبار أن الكثير من الحقائق قد شُوّهت إما عمدًا أو جهلًا.
وقد ذكرنا الكثير من كتب التاريخ التي تطعن في الصحابة رضي الله عنهم إما عمدًا، وإما جهلًا.
وقد بُني داخل الكثير منا، من خلال دراستنا للتاريخ في مدارسنا وجامعاتنا بصورة مشوهة وغير صحيحة، بُنيت بعض الأمور التي نظنّ أنها هي الحقيقة، بل نجادل من يقول بخلافها، وما نودّ أن نقوله هو:
لو حدث أنك لم تقتنع بشكل كافٍ بأمر من الأمور، فافترض أن بعض الأمور قد غابت عنك، ولكن لا تظن على الإطلاق أن أحد هؤلاء الأخيار قد تعمّد قيام مثل هذه الفتنة، وأن يقاتل هؤلاء رغبة في الملك، أو الإمارة، أو المال، أو أي أمر من أمور الدنيا، فهؤلاء قد توفي الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو راض عنهم ورضي الله عنهم، ويشير إلى ذلك الكثير من الآيات، والأحاديث، وهذا من عقائدنا، فلا يخالف أحد العقيدة بظنٍ قد يظنه بأحد هؤلاء الأخيار رضي الله عنهم جميعًا.
مما ينبغي الإشارة إليه أيضًا ضعف الاتصالات بين الصحابة، وبين كثير من الناس ممن يسكن الأمصار النائية، ويتأثرون بما يشيعه أهل الفتنة من افتراءات، وكذب، ورسائل مزورة ينسبونها إلى الصحابة رضي الله عنهم، ولو قدّر لهذا الأمر أن يحدث في العصر الحديث مع توافر وسائل الاتصال المختلفة من هاتف وتلفاز، ما كان للأمور أن تتفاقم بهذا الحجم، وذلك أن الأمور كان تسير بسوء من مدبري الفتنة دون أن يعلم الأمراء، ودون أن يعلم عثمان t إلا بعد أيام، بل شهور، وتصحيح فكر الناس يحتاج إلى وقت كبير ذهابًا وإيابًا، فضُلّل كثير من الناس.
وكان ما حدثَ من أمور إنما هو من قضاء الله عز وجل ومن ابتلائه لهم رضي الله عنهم جميعًا { وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38].
ربما يتساءل البعض أيضًا: لماذا لم يسمح عثمان t للصحابة رضوان الله عليهم أن يدافعوا عنه في هذه الأزمة؟
نقول: إن القاعدة الشرعية تقول:
إن على المرء أن يدفع أعظم الضررين، وأن يجلب أكبر المنفعتين قدر ما يستطيع، فإذا كان هناك ضرران من المحتّم أن يحدث أحدهم،فيتم اختيار أخفهما ضررًا منعًا لحدوث أكبرهما، وكذلك في المنافع ينبغي اختيار المنفعة الأكبر دون الأقل، وكذلك في قضية تغيير المنكر لا يصح أن يُغيّر بمنكرٍ أكبر منه.
وانطلاقًا من هذه القاعدة كان عثمان بن عفان t يقيس المنافع والأضرار، فرأى t- ومعه الحق في ذلك- أنه إذا وصل الأمر إلى قتله في مقابل أن لا يُقتل جميع الصحابة، فهذا أفضل للإسلام وللمسلمين، فقرر t أن يضحي بنفسه، وهي شجاعة نادرة، وليست سلبية، أو جنبًا، أو عجزًا عن أخذ الرأي، فقد ضحّى بنفسه t لئلا يجعل الصحابة رضوان الله عليهم يدخلون في قتال مع هؤلاء الخوارج، فيُقتل الصحابة في هذه الفتنة، وكان عدد أهل الفتنة- كما نعرف- أكبر بكثير من عدد الصحابة.
وأمر عثمان t، بل أقسم على من له حق عليه أن يضع سيفه في غمده، فلو دافعوا عنه لعَصَوه t، وعنهم جميعًا كما قال ذلك علي بن أبي طالب t عندما سأله أحد الناس بعد ذلك:
كيف وسِعَك أن تدع عثمان يُقتل؟
فقال t: لو دافعنا عنه عصيناه، لأنه قال: من سلّ السيف فليس مني.
وقد قال عثمان t لغلمانه: من أغمد سيفه فهو حرّ.
فهو t يريد بذلك ألا تقع الفتنة بأي صورة من الصور.
ربما يقول البعض: ولكن الفتنة حدثت وسُفكت الدماء بعد ذلك في موقعة الجمل وصفين؟
نقول: إن كل هذا لم يكن في الحسبان، وإن التقدير المادي البشري الذي اتبعه عثمان t كان يشير إلى أن ما أقدم عليه من رأي يقمع الفتنة في بدايتها، ولكن الأمر تطور بعد ذلك على غير ما توقع الصحابة رضوان الله عليهم جميعًا {وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38].
وينبغي عند الحكم في مثل هذه القضايا أن يكون للعقل دوره، وألا تتحكم العاطفة وحدها في الأمر كله، فموقف قتل عثمان بن عفان t بهذه البشاعة، وبهذا الجرم الذي لم يحدث من قبل، تأخذ الحميّة البعض وينسون القاعدة الشرعية التي هي الأخذ بأخف الضررين، ودفع أكبرهما، ويطالبون بالثأر له قبل أي شيء، ولا شك أن هذه الأمور كلها كانت واضحة تمامًا عند علي بن أبي طالب t يوم أن قرر أن يسكت عن قتلة عثمان بن عفان t بصفة مؤقتة، فلم يكن قد مُكّن الأمر له في البلاد بعد، وعلينا أن نتخيل ما الذي كان من المتوقع أن يحدث لو فعل ما تمليه العاطفة، ونقدّر التوابع المترتبة على هذا الأمر، هل هي أكبر أم أقل منه، وعندها نستطيع أن نصدر الحكم الصحيح، مع الأخذ في الاعتبار أن عليًا t من أفقه أهل الأرض في هذا الوقت إن لم يكن أفقههم جميعًا t.
ربما قال البعض: لِمَ لَمْ يترك عثمان بن عفان t الخلافة درءًا للفتنة؟
ذكرنا الحديث الصحيح عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا عُثْمَانُ، إِنْ وَلَّاكَ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ يَوْمًا، فَأَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تَخْلَعَ قَمِيصَكَ الَّذِي قَمَّصَكَ اللَّهُ فَلَا تَخْلَعْهُ، يَا عُثْمَانُ، إِنْ وَلَّاكَ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ يَوْمًا، فَأَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تَخْلَعَ قَمِيصَكَ الَّذِي قَمَّصَكَ اللَّهُ فَلَا تَخْلَعْهُ، يَا عُثْمَانُ، إِنْ وَلَّاكَ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ يَوْمًا، فَأَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تَخْلَعَ قَمِيصَكَ الَّذِي قَمَّصَكَ اللَّهُ فَلَا تَخْلَعْهُ".
وكرّر r ذلك ثلاث مرات، وفي هذا دلالة واضحة على أن على عثمان t أن يتمسك بهذا الأمر، وتركه الأمر لهؤلاء المنافقين حينئذٍ إنما هو مخالفة واضحة لنصّ حديث رسول صلى الله عليه وسلم، والذي رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد والحاكم.
ومن الأمور المهمة التي يجب الإشارة إليها في هذا الموضوع أن من عقيدة المسلمين الإيمان بما قاله الرسول r، وثبتت صحة نسبته إليه، حتى ولو لم يكن هناك دليل مادي على الأمور الغيبية التي أخبر بها الرسول r، ومن بين ما أخبر به الرسول r هذا الحديث الذي يؤكد على عثمان بن عفان t التمسك بالخلافة حال حدوث الفتنة، وعدم تركها للمنافقين.
فعثمان t على يقين أن ما قاله الرسول r هو الحق، وهو ما ينبغي أن يُتّبع، هو أمر صريح من رسول الله r، واتباع عثمان t لهذا الأمر إنما هو دليل على صدق إيمانه.
ربما لا يقتنع الماديون بالأمور الغيبية، ولكننا نخاطب المؤمنين الذين ذُكر من صفاتهم في القرآن الكريم: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة:3].
لا بد إذن من الإيمان اليقيني بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف عرف النبي r أن هذه الفتنة سوف تحدث في عهد عثمان t إلا أن يكون وحيًا من الله تعالى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النَّجم:4].
ذكرنا أيضًا أنه بعد مقتل عثمان بن عفان t اجتمع كل الناس بمن فيهم الصحابة على عليٍّ t، فرفض هذا الأمر رفضًا تامًا، وبعد ضغوط كثيرة اضطر t أن يقبل الخلافة، وكان ذلك بعد خمسة أيام من مقتل عثمان t، وبايعه أيضًا طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام رضي الله عنهما على خلاف في الروايات التي تقول: إنهما بايعا مكَرَهِين.
ثم بايعه بقية الناس، وتأخر بعض الناس في البيعة، لكنهم بايعوا بعد ذلك، وأرسل علي t إلى كل الأمصار يخبرهم بهذا الأمر، وكان الواجب على كل الأمصار أن ترسل مبايعتها لعلي t بهذه الخلافة.
كان أهل الفتنة في هذا الوقت يسيطرون على الأمور في المدينة بصفة عامة، ولهم من القوة والسلاح ما يؤهلهم لذلك، ولم يكن بيد علي بن أبي طالب t في هذا الوقت من القوة ما يستطيع من خلاله أن يقتل قتلة عثمان t دون أن تحدث فتنة عظيمة في الأمصار المختلفة، والتي سوف تثور لهؤلاء القتلة بدافع الحمية، والعصبية، فآثر t أن يؤجل محاكمة هؤلاء القتلة إلى حين تثْبت أركان الدولة، ثم يتصرف t التصرف الذي يراه مناسبًا مع كل من شارك في هذه الفتنة، فمنهم من يُقتل كرءوس الفتنة، والمحرّضين عليها، ومن شارك في القتل بيده، ومنهم من يُعزّر كالجهّال الذين يظنون أنهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر بهذا الفعل الشنيع، فكلٌ له حكمه، وكانت إقامة هذه المحاكمة في هذا التوقيت من الأمور الصعبة للغاية نظرًا لأن كثيرًا من الأمور لا زالت بأيدي هؤلاء المتمردين، وهناك الكثير من القبائل الملتفة حول هذه الرءوس التي أحدثت الفتنة، وهذه القبائل قد دخلت في الإسلام حديثًا، ولم يتعمق الإيمان في قلوبهم كما تعمق في قلوب الصحابة رضوان الله عليهم، فقد ظل الرسول r ثلاثة عشر عامًا يربي المؤمنين في مكة، ولم ينزل التشريع إلا في المدينة بعد أن تمكن الإيمان من قلوب المهاجرين، والأنصار، وأعطاهم الله تعالى الملك، والإمارة بعد ذلك بسنين عديدة، ومن ثَمّ لم تحدث مخالفات، أما من لم يمر بهذه المرحلة من التربية، ثم كانت له الإمارة، أو الخلافة، فلا شك أنه سوف تنشأ من جهته أمور عظيمة، وفتن كثيرة، فهذه القبائل الملتفّة حول أهل الفتنة كان لديهم شيء من القبلية، ومن العصبية، ومن حب الدنيا، ومن حب الإمارة، ولم يكن علي t يدري ما سوف تفعله تلك القبائل حال قتله لأهل الفتنة، فربما قاموا بتجميع الجيوش، وقاموا بالثورات في مختلف الأمصار في مصر، والكوفة، والبصرة، واليمن، ويستقل كل أمير بإمارته، وتتفتت الدولة الإسلامية، وهذا كله بسبب قتل قتلة عثمان t.
فأيهما أشد في ميزان الإسلام؟!
أن تتفكك الدولة الإسلامية ويصبح كل أمير على مصر من الأمصار، كما هو حالنا اليوم، أم يصبر على قتل عثمان t - والذي قُتل بالفعل- إلى أن تدين له كل أطراف الدولة الإسلامية، ويستقر الحكم، وتهدأ الفتن، ثم يعاقب كلًا بما يستحق.
وهذه الأمور كلها من الأمور الاجتهادية، والحق فيها ليس واضحًا لأيٍّ من الأطراف تمام الوضوح، وعلي t عندما يأخذ قرارًا من القرارات يفكر كثيرًا قبل أن يصدره، ويستشير، ثم يخرج بالقرار في النهاية، وكانت الأمور في منتهى الغموض كما يقول من يصف الفتنة أنها "يبيت فيها الحليم حيرانًا" وقد تحيّر الصحابة رضوان الله عليهم كثيرًا في هذه الأمور، ولم يأخذوا قرارتهم إلا بعد تفكير عميق، وفكر ثاقب، واجتهدوا قدر استطاعتهم، فمن أصاب منهم فله أجران، ومن أخطأ فله أجر، وهم ليسوا بمعصومين، وهم جميعًا من أهل الاجتهاد حتى لا يقول أحد:
ولِمَ اجتهدوا في وجود علي t، وهو أفقههم وأعلمهم؟
إنهم جميعًا رضي الله عنهم من أهل الاجتهاد، فالسيدة عائشة رضي الله عنها من أهل الاجتهاد، والزبير بن العوّام t من أهل الاجتهاد، وطلحة بن عبيد الله t من أهل الاجتهاد، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، والذي ترك الأمور واعتزل من أهل الاجتهاد، وسعد بن أبي وقاص t من أهل الاجتهاد.
إذن فعليٌ t وأرضاه، ومن حاربوه جميعًا مجتهدون، والمجتهد يحق له أن يجمع بين الأمور، وأن يأخذ ما يراه مناسبًا منها، وعلينا ألا نلّوث ألستنا، أو عقولنا بظنٍ سيئٍ فيهم، والأحداث لا تتضح إلا بعد انتهائها.
أرسل علي بن أبي طالب t عثمان بن حنيف t أميرًا على البصرة، فذهب إليها، واعتلى المنبر، وأخبرهم بأنه الأمير عليهم من قِبل علي بن أبي طالب t، أما أميرهم الأول عبد الله بن عامر، فقد كان ممن يطالبون بدم عثمان بن عفان t وأرضاه، وذهب إلى مكة.
وولّي على مصر قيس بن سعد، ودان له أغلب أهلها، إلا فئة قليلة آثرت الاعتزال في إحدى القرى دون أن تبايع، ودون أن تقاتل مَنْ بايع عليًا t.
وأقرّ علي بن أبي طالب t أبا موسى الأشعري على إمارة الكوفة.
أما الشام فذكرنا أن عليًا t أرسل ثلاث رسائل إلى معاوية بن أبي سفيان t يطالبه فيها بمبايعته، ولكن معاوية t قال: دم عثمان قبل المبايعة.
ولم يطلب معاوية t وأرضاه خلافة، ولا إمارة، ولا سيطرة على الدولة الإسلامية، وإنما يريد أن يُؤخذ بثأر عثمان مِن قَتَلتِهِ سواءً أخذ هذا الثأر علي t، أو أخذه هو بنفسه، المهم أن يتم أخذ الثأر من هؤلاء القتلة، وبعدها يبايع t عليًا t.
أما قبل أخذ الثأر من القتلة، فلن يبايع، وكان معه سبعون ألف رجل يبكون ليلًا ونهارًا تحت قميص عثمان بن عفان t المعلّق على منبر المسجد بدمشق، ومع القميص أصابع السيدة نائلة بنت الفرافصة، وكفّها التي قُطعت، وهي تدافع عن زوجها رضي الله عنهما.
وفي آخر الأمر أرسل معاوية t لعلي t رسالة فارغة، حتى إذا فتحها أهل الفتنة في الطريق لا يقتلون حاملها، ودخل حامل الرسالة على علي t مشيرًا بيده أنه رافض للبيعة، فقال لعلي t:
أعندك أمان؟
فأمّنه عليٌّ t.
فقال له: إن معاوية يقول لك: إنه لن يبايع إلا بعد أخذ الثأر من قتلة عثمان، تأخذه أنت، وإن لم تستطع أخذناه نحن.
وكاد أهل الفتنة أن يقتلوا الرسول، كما كان يخشى معاوية t، لكن عليًا t قام بحمايته، حتى أوصله إلى خارج المدينة، ورجع الرسول إلى دمشق.
إذن فمعاوية بن أبي سفيان t يرفض أن يبايع عليًا t بعد أن تمت له البيعة الصحيحة، وبعد أن اجتمع أهل الحِلّ والعقد، وأهل بدر على اختيار علي بن أبي طالب t خليفة للمسلمين، إذن فقد أصبح معاوية t خارجًا على الخليفة، فقرّر الخليفة علي بن أبي طالب t أن يجمع الجيوش، ويذهب إليه حتى يردّه عن هذا الخروج بالسِلْم وإلا قاتله، فأرسل علي t لأمرائه بالأمصار أن يعدّوا الجيوش للذهاب إلى الشام لأجل هذا الأمر.
مقدمات موقعة الجمل
كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في مكة تحج في الوقت الذي قُتِلَ فيه عثمان t، أما طلحة والزبير فإنهما بعد أن بايعا ورأيا سيطرة أهل الفتنة على المدينة خرجوا منها إلى مكة، وهناك قرَّر المجتمعون في مكة – وأبرزهم عائشة رضي الله عنها وطلحة والزبير رضي الله عنهم - أن يُجَهِّزوا جيشًا، ويذهبوا إلى المدينة المنورة لأخذ الثأر من قتلة عثمان t؛ لأن عليًّا t لا يستطيع أن يُقاتلهم وحده، ووافقت السيدة عائشة رضي الله عنها على هذا الأمر، ووافقت جميع زوجات النبي r على الخروج من مكة إلى المدينة؛ لأخذ الثأر لعثمان بن عفان t.
وظهر رأي آخر يقول بالذهاب إلى الشام للاستعانة بمعاوية t على هذا الأمر، فقال عبد الله بن عامر: إن معاوية قد كفاكم أمر الشام، وأشار عليهم بالذهاب إلى البصرة- وكان واليًا عليها قبل ذلك- للتزوُّد بالمدد والأعوان منها، وكان له فيها يدٌ ورأي، وقال لهم: إن لطلحة فيها كلمة ورأي، وقد كان t واليًا عليها لفترة من الزمن وتأثَّرُوا به.
فكان رأي عبد الله بن عامر أن يذهبوا إلى البصرة، ويبدءوا بقتلة عثمان الموجودين في البصرة فيقتلونهم، ثم يذهبون بعد أن يتزوَّدوا بالعدد والعدَّة إلى المدينة فيأتون على باقي القتلة.
وأعجب هذا الرأي الجميع إلاَّ السيدة عائشة رضي الله عنها فقالوا لها: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114]. وأن ما تفعلينه بهذا الخروج، إنما هو إصلاح بين الناس، وليس منافيًا لقول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}[ الأحزاب: 33].
ورفضت سائر زوجات النبي رضي الله عنهم الخروج إلى البصرة إلاَّ السيدة حفصة بنت عمر رضي الله عنها، فقرَّرت الخروج مع السيدة عائشة رضي الله عنها إلى البصرة، إلاَّ أن أخاها عبد الله بن عمر t قال لها: إن هذا زمن فتنة، وعليك أن تقرِّي في بيتك، ولا تخرجي. فلمَّا خاطبتها السيدة عائشة في عدم خروجها إلى البصرة قالت لها إن أخاها- أي عبد الله بن عمر- قد منعها، فقالت السيدة عائشة رضي الله عنها: غفر الله له.
ويتَّضح من هذا الموقف مدى قناعة السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها بأمر الخروج للبصرة، لدرجة أنها تَعُدُّ أمر عبد الله بن عمر في منعه للسيدة حفصة رضي الله عنها من الخروج ذنبًا تستغفر الله لعبد الله بن عمر منه.
كان موقف عبد الله بن عمر t هو اعتزال الفتنة من أولها إلى آخرها، وكان t يُصَوِّر الفتنة بأنها كغمامة جاءت على المسلمين، فلم يَعُدْ أحد يرى شيئًا، والكل يسير في طريق يُريد أن يصل إلى الصواب، فاجتهد فريق منهم في الطريق، فوصل فهذا علي ومن معه، واجتهد آخرون لكي يصلوا، ولكنهم أخطئوا الطريق؛ فمعاوية ومن معه، والبعض انتظر حتى تنقشع الغمامة ثم يرى الرأي، وكان هو t من هذه الفئة، ثم يقول t: والمجاهد أفضل.
أي علي بن أبي طالب t أفضل، لكن الأمر فيه خطورة كبيرة، وفيها احتمالية الخطأ في الوصول، ولم يكن عليٌّ t يُجبر أحدًا على الخروج معه في هذا الأمر، بل كان الأمر تطوُّعيًّا، ومَنِ اعتزل فلا شيء عليه، ولا يُجبَر على رأي من الآراء.
خرجت السيدة عائشة رضي الله عنها من مكة ومن معها من الناس؛ طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وابنه عبد الله، وأمَّرت السيدة عائشة رضي الله عنها عبد الله بن الزبير على الصلاة، وكانت ترى أنه أعلم الناس مع وجود أبيه، وجهَّز يعلى بن أمية البعير، وكانت ستمائة بعير بالمال الذي أتى به معه من اليمن عندما قدم إلى مكة.
وكان عددهم عند خروجهم من مكة تسعمائة، ثم بلغ عددهم بعد قليل ثلاثة آلاف في طريقهم إلى البصرة، واشتروا للسيدة عائشة رضي الله عنها جملاً، وركبت في الهودج فوق الجمل، وانطلقوا نحو البصرة.
عَلِمَ علي t بهذا الأمر كله، وكان حينها على نيَّة الخروج للشام، لكن مع هذه المستجدات قرَّر t الانتظار حتى يرى ما تصير إليه الأمور.
رواية الحوأب:
لما أقبلت عائشة - يعني في مسيرها إلى وقعة الجمل - وبلغت مياه بني عامر ليلاً، نبحت الكلاب، فقالت: أي ماء هذا؟ قالوا: ماء الحوأب. فقالت: ما أظنني إلا راجعة. فقال بعض من كان معها: بل تقدمين فيراك المسلمون فيصلح الله ذات بينهم. قالت: إن رسول الله r قال لنا ذات يوم: "كَيْفَ بِإِحْدَاكُنَّ تَنْبَحُ عَلَيْهَا كِلابُ الْحَوْأَبِ؟"[1] . وفي لفظ آخر قال r لنسائه: "لَيْتَ شِعْرِي أيَّتُكُنَّ صَاحِبَةُ الْجَمَلِ الأَدْبَبِ[2] ، تَخْرُجُ فَيَنْبَحُهَا كِلابُ الْحَوْأَبِ يُقْتَلُ عَنْ يَمِينِهَا وَعَنْ يَسَارِهَا قَتْلَى كَثِيرٌ ثُمَّ تَنْجُو بَعْدَ مَا كَادَتْ".
فقال لها الزبير: ترجعين؟! عسى الله أن يُصلح بك بين الناس.
فهذه نِيَّة عائشة رضي الله عنها عند خروجها، فما خرجت لقتال علي t، بل خرجت للإصلاح، فلو عَلِمَ أي مسلم أن فريقين من المسلمين سيقتتلان، وأنَّ خروجه سيحقن دماءهم لما تردَّد في الخروج، فكيف بعائشة رضي الله عنها؟! كما أن الحديث ليس فيه نهي عن شيء، أو أمر بشيء تفعله عائشة رضي الله عنها.
ولقد دلُّ هذا الحديث على أن النبي r كان يعلم أن عائشة رضي الله عنها ستخرج.
إن التوقُّف أمام المشهد بشيء من الرويَّة وإحسان الظنِّ يجعله أكثر وضوحًا؛ إن الزمان زمان فتنة، الفتنة التي لا يتَّضح فيها الحقُّ واضحًا جليًّا؛ حتى إنَّ كبار العقول تحتار فيه، ولقد حدث أن اعتزل بعض الصحابة هذه الفتنة كلها؛ لما يبدو من غيام على الحقِّ، وإنَّ مِنْ فضل الله ونعمته على هذه الأُمَّة وجود النصوص الصحيحة التي تُبَيِّن وجه الحقِّ في هذه الفتن، إننا نعلم الآن من خلال هذه النصوص أيَّ الفئات كانت على الحقِّ، وأيَّها كانت المخطئة أو الباغية، فرواية الحوأب هذه وكذلك ما صحَّ عن النبي r من أن عمار بن ياسر تقتله الفئة الباغية هي الروايات التي تُظهر الحقَّ للأجيال القادمة لكي يستفيدوا من التجربة، إلاَّ أنه في زمن الفتنة قد يقع الخطأ والتأويل غير السديد لمثل هذه النصوص.
فأُمُّ المؤمنين عائشة -وهي العالمة الفقيهة التي تملك أدوات الاجتهاد- كانت مدفوعة بعاطفتها؛ عاطفتها تجاه عثمان بن عفان t الخليفة الذي قُتل ظلمًا بأيدي عدد من الرعاع والغوغاء، في مدينة رسول الله r وفي الشهر الحرام، كذلك عاطفتها تجاه المسلمين الذين انقسموا فئتين؛ فئة علي tالتي تُطالب بالبيعة، وفئة معاوية t التي تُصِرُّ على أخذ القصاص من قتلة عثمان t قبل البيعة، وما كان يمنع الإصلاح بين هذين الفريقين إلاَّ أن يُقتل قتلة عثمان t، فكانت ترى في خروجها إلى البصرة واستكثارها من الأنصار استقواءً وامتلاكًا للقدرة على تنفيذ القصاص من قتلة عثمان؛ فيتمُّ الإصلاح بين الفريقين المتخاصمين من المسلمين.
ولا شَكَّ أنها رضي الله عنها لما سمعت نباح الكلاب وعلمتْ أنها كلاب الحوأب اهتزَّ موقفها، وتردَّدت وخشيتْ أن تكون المعنيَّة بالحديث، إلاَّ أن توقُّعَاتها القوية بأن الأمر لن يكون فيه قتال، وأن غرضها ما هو إلاَّ الإصلاح تأوَّلت المعنى، وربما ظنَّت أنها امرأة أخرى في موقف آخر فيه قتال وقتل كثير.
قد تُسيطر "فكرة ما" على الذهن فتقوم فيه مقام الحقِّ الذي لا حقَّ غيره، فيتمُّ تأويل النصوص لتُوَافق الحقَّ المظنون، ولقد كان الأولى بأم المؤمنين رضي الله عنها وَمَنْ معها أن يعودوا، إلاَّ أنَّ الله شاء غير هذا، قال الشيخ الألباني: "ليس كلُّ ما يقع من الكمل يكون لائقًا بهم؛ إذ لا عصمة إلاَّ لله وحده، والسُّنِّيّ لا ينبغي له أن يُغالي فيمن يحترمه حتى يرفعه إلى مصاف الأئمة الشيعة المعصومين! ولا نشكُّ أن خروج أم المؤمنين كان خطأ من أصله؛ ولذلك همَّت بالرجوع حين علمت بتحقُّق نبوءة النبي r عند الحوأب، ولكن الزبير t أقنعها بترك الرجوع بقوله: عسى الله أن يُصلح بك بين الناس. ولا نشكُّ أنه كان مخطئًا في ذلك أيضًا، والعقل يقطع بأنه لا مناص من القول بتخطئة إحدى الطائفتين المتقاتلتين، اللتين وقع فيهما مئات القتلى، ولا شكُّ أن عائشة رضي الله عنها المخطئة لأسباب كثيرة وأدلَّة واضحة؛ ومنها ندمها على خروجها، وذلك هو اللائق بفضلها وكمالها"[3].
قدِم الجيش الذي خرج من مكة وفيه السيدة عائشة رضي الله عنها إلى البصرة، وقبل دخولهم أرسلوا رسائل إلى عثمان بن حنيف والي البصرة من قِبَل علي بن أبي طالب t أن يُخلي البصرة لجيش السيدة عائشة رضي الله عنها؛ لأخذ المدد، والأخذ على يد مَنْ قتل عثمان بن عفان tوأرضاه، ولم يكن عثمان بن حنيف t يعلم مَنْ قتل عثمان من أهل البصرة، ولا يعلم -أيضًا- مَنْ وافق من أهلها على القتل، ومَنْ لم يوافق، ولكن مما يُذكر أن حكيم بن جبلة وهو أحد رءوس الفتنة كان قد هرب من المدينة إلى البصرة بعد قتل عثمان t، وكان مختبئًا في مكان لا يعلم به أحد، وهو من رءوس قومه، ومن إحدى القبائل الكبيرة.
ثم كان الحوار عن طريق الرُّسل بين السيدة عائشة ومعها طلحة، والزبير، وبين عثمان بن حنيف والي البصرة رضي الله عنهم وأرضاهم جميعًا.
فأرسل إليهم عثمان بن حنيف: ما الذي أتى بكم؟
فقالت السيدة عائشة: إن نريد إلاَّ الإصلاح.
أي إنه ما أتى بهم إلى البصرة، إلا لأنهم يُريدون أن يجمعوا كلمة المسلمين، وأنهم يَرَوْنَ أنه لن تجتمع كلمة المسلمين إلاَّ بعد أن يُقتل مَنْ قتل عثمان بن عفان t.
فوقف عثمان بن حنيف على المنبر يستشير الناسَ في هذا الأمر، فقام رجل يُسمَّى الأسود بن سَرِيع[4]، وأشار بأنه لا بأس بأن يضع أهل البصرة يدهم في يد هذا الجيش القادم من مكة لقتل قتلة عثمان، ما دام لا يوجد أحد منهم في البصرة، فلما قال ذلك حُصب بالحجارة، فعلم عثمان بن حنيف أن لقتلة عثمان أعوانًا في البصرة، وكاد أن يحدث ما يخشاه علي بن أبي طالب t إن قتل قتلة عثمان في هذا التوقيت.
ومن ثَمَّ رفض عثمان بن حنيف والي البصرة دخول جيش السيدة عائشة رضي الله عنها إلى البصرة، فلما هدَّدوه أنهم سوف يدخلون بالقوَّة أخذ جيشه ووقف على حدود البصرة، فقام طلحة بن عبيد الله، وخطب في الناس وذكَّرهم بدم عثمان، ثم قام الزبير بن العوام، وخطب في الناس خطبة، وبقي الحال على ما هو عليه، ثم قامت السيدة عائشة رضي الله عنها، وخطبت في الناس خطبة عصماء بليغة، ورقَّقت قلوب الناس لدم عثمان t ، فانقسم جيش عثمان بن حنيف إلى فئتين فئة مع السيدة عائشة وجيشها، وفئة ظلَّت معه، وقويت شوكة جيش السيدة عائشة رضي الله عنها، وضعفت شوكة جيش عثمان بن حنيف ومَنْ معه من الموالين لعلي بن أبي طالب t، وفيهم الكثير من المؤيدين لقتل عثمان بن عفان t، والقبائل التي منها مَن قتل عثمان، ولو لم تشترك هي في القتل، لكنهم يُريدون أن يكون لهم الأمر، فلما كان هذا الأمر بدأ عثمان بن حنيف t يُفَكِّر فيما سيفعله؛ هل يُصالحهم درءًا لهذه الفتنة، أم يُرسل إلى عليٍّ t؟
وخاف أهل الفتنة من أمر الصلح؛ لأنه لن يكون في مصلحتهم على الإطلاق، فأتى حكيم بن جبلة في هذا الوقت، ومعه قوَّة من قبيلته، وأنشب القتال مع جيش السيدة عائشة، وبدأ يرميهم بالسهام ويردُّوا عليه، ودارت الحرب بين الفريقين، وكثر القتلى وكثرت الجراح، وفي النهاية أسفرت المعارك عن مقتل حكيم بن جبلة ومعه ستمائة من أهل البصرة، وأُسر عثمان بن حنيف، ولم يُقتل، ثم أطلقوه.
فلما عَلِمَ عليٌّ t بهذا الأمر، خرج من المدينة ومعه تسعمائة إلى البصرة، وتوجَّه بهم إلى (ذي قار)، فقابله رجل يُسمَّى ابن أبي رفاعة بن رافع، وقال له: يا أمير المؤمنين؛ أي شيءٍ تُريد، وأين تذهب بنا؟ فقال له علي t: أما الذي نُريد وننوي فالإصلاح إن قبلوا منا وأجابوا إليه. قال: فإن لم يرضوا؟ قال: ندَعهم بعذرهم، ونعطهم الحقَّ ونصبر. قال: فإن لم يرضوا؟ قال: ندَعهم ما تركونا. قال: فإن لم يتركونا؟ قال: امتنعنا منهم. أي بالسيف. قال: فنعم إذًا. وخرج معهم.
وقام إليه الحجاج بن غَزِّيَّة الأنصاري، فقال: لأرضينك بالفعل كما أرضيتني بالقول، والله لينصرنا الله كما سمانا أنصارًا.
وقبل أن يصل إلى (ذي قار) قابله عثمان بن حنيف، وأخبره بما حدث في البصرة ومقتل الستمائة وغيرهم، فقال علي t: إنا لله وإنا إليه راجعون. وأرسل ابنه الحسن، والقعقاع بن عمرو، وعمار بن ياسر رضي الله عنهم جميعًا إلى الكوفة لأخذ المدد منها.
كان في الكوفة أبو موسى الأشعري t وكان ممن يرى رأي عبد الله بن عمر t من اعتزال الفتنة كليةً، وأنه لا يصحُّ أن يقتتل المسلمون بالسيوف، فقام الحسن والقعقاع وعمَّار رضي الله عنهم جميعًا في المسجد، وأخذوا يُقنعون الناس بالخروج معهم، بينما كان أبو موسى الأشعري tقد كلَّم الناس بأنه يجب اعتزال الفتنة، وعدم الخروج مع أيٍّ من الفريقين، فقام أحد رعاع الناس محاولاً إرضاء الحسن والقعقاع وعمار رضي الله عنهم، وسبَّ السيدة عائشة ظنًّا منه أن هذا يرضيهم.
فقال له عمار بن ياسر: اسكت مقبوحًا منبوحًا. وقال t: إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا، والآخرة، ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه، أو إياها.
وقام حجر بن عدي[5] فقال للناس: انفروا إلى أمير المؤمنين خفافًا وثقالاً، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون.
وبدأ الناس يميلون إلى رأي القعقاع وعمار والحسن رضي الله عنهم جميعًا، وخرج معهم اثنا عشر ألفًا، وأتى لعلي t أناس من قبيلة طيِّئ وقيل له: إن منهم مَنْ يُريد الخروج معك، ومنهم مَنْ جاء ليسلم عليك. فقال t: جزى الله كلاًّ خيرًا. ثم قال: {وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95].
وفي الطريق إلى (ذي قار) قابلهم المستشار الأول لعلي بن أبي طالب t، وهو عبد الله بن عباس، فقال للقوم: يا أهل الكوفة؛ أنتم لقيتم ملوك العجم -أي الفرس- ففضضتم جموعهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة، فإن يرجعوا فذاك الذي نُريده، وإن أبوا داويناهم بالرفق، حتى يبدءونا بالظلم، ولن ندع أمرًا فيه صلاح إلاَّ آثرناه على ما فيه الفساد، إن شاء الله تعالى. فاجتمع الناس على ذلك.
وبعد أن اجتمع الجيش في (ذي قار) تَوَجَّهُوا نحو البصرة، وفي هذا الوقت كان الناس بين مؤيِّد لعلي t ينضمُّ إلى صفه؛ وبين مُؤَيِّد لما عليه السيدة عائشة فينضمُّ إلى صفِّها، فوصل تعداد جيش علي t إلى عشرين ألفًا، بينما وصل تعداد جيش السيدة عائشة رضي الله عنها إلى ثلاثين ألفًا، واقترب الجيشان من البصرة، وكلاهما لا يُريد قتالاً، فأرسل عليٌّ t القعقاع بن عمرو t ليتفاوض، ويتحدَّث في أمر الصلح مع السيدة عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم جميعًا، فقال القعقاع t للسيدة عائشة رضي الله عنها: أي أُمَّاه - فهي t، أمه وأم جميع المؤمنين - ما أقدمك هذه البلد؟
فقالت رضي الله عنها: أي بني؛ الإصلاح بين الناس.
فسألها أن تبعث لطلحة والزبير أن يحضرا عندها، فأرسلت إليهما فجاءا.
فقال القعقاع: إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها؟ فقالت: إني جئت للإصلاح بين الناس.
فقالا: ونحن كذلك.
فقال: وما وجه الإصلاح، وعلى أي شيء يكون؟ فوالله! لئن عرفناه لنصطلحنَّ، ولئن أنكرناه لا نصطلحن.
فقالا: قتلة عثمان، فإن هذا إن تُرك، كان تركًا للقرآن.
فقال القعقاع: قتلتما قتلته من أهل البصرة، وأنتما قبل قتلهم أقرب منكم إلى الاستقامة منكم اليوم، قتلتم ستمائة رجل، فغضب لهم ستة آلاف، فاعتزلوكم، وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم حرقوص بن زهير، فمنعه ستة آلاف، فإن تركتموهم وقعتم فيما تقولون، وإن قاتلتموهم، فأُديلوا عليكم[6] كان الذي حذرتم، وفرَّقتم من هذا الأمر أعظم مما أراكم تدفعون، وتجمعون منه.
يعني أن الذي تُريدونه من قتل قتلة عثمان مصلحة، ولكنه يترتَّب عليه مفسدة هي أربى منها، وكما أنكم عجزتم عن الأخذ بثأر عثمان من حرقوص بن زهير، لقيام ستة آلاف في منعه ممن يُريد قتله، فعليٌّ أعذر في تركه الآن قتل قتلة عثمان، وإنما أخَّر قتل قتلة عثمان إلى أن يتمكَّن منهم، فإن الكلمة في جميع الأمصار مختلفة، ثم أعلمهم أن خلقًا من ربيعة ومضر قد اجتمعوا لحربهم بسبب هذا الأمر الذي وقع.
وبدأ القوم يتأثَّرون بقوله.
فقالت له عائشة أم المؤمنين: فماذا تقول أنت؟
قال: أقول: إن هذا الأمر الذي وقع دواؤه التسكين، فإذا سكن اختلجوا، فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير، وتباشير رحمة، وإدراك الثأر، وإن أنتم أبيتم إلاَّ مكابرة هذا الأمر، كانت علامة شرٍّ، وذهاب هذا الملك، فآثروا العافية تُرزقوها، وكونوا مفاتيح خير كما كنتم أولاً، ولا تُعَرِّضونا للبلاء، فتتعرَّضوا له، فيصرعنا الله وإياكم، وايم الله! إني لأقول قولي هذا، وأدعوكم إليه، وإني لخائف أن لا يتمَّ حتى يأخذ الله حاجته من هذه الأُمَّة التي قلَّ متاعها، ونزل بها ما نزل، فإن هذا الأمر الذي قد حدث أمر عظيم، وليس كقتل الرجل الرجل، ولا النفر الرجل، ولا القبيلة القبيلة.
فقالوا: قد أصبت وأحسنت فارجع، فإن قدم عليٌّ، وهو على مثل رأيك صَلُح الأمر.
فرجع إلى عليٍّ، فأخبره فأعجبه ذلك، واتفق القوم على الصلح، وكره ذلك مَنْ كرهه، ورضيه من رضيه، وأرسلت عائشة إلى عليٍّ تُعلمه، أنها إنما جاءت للصلح، ففرح هؤلاء وهؤلاء، وقام عليٌّ في الناس خطيبًا، فذكر الجاهلية وشقاءها وأعمالها، وذكر الإسلام وسعادة أهله بالألفة والجماعة.
وقال عليٌّ t: إني متوجِّه بقومي إليهم للمصالحة، فمَنْ كانت له يد في قتل عثمان بن عفان فلا يتبعنا. فقاموا معه إلاَّ ألفين وخمسمائة، وهم مَنْ شاركوا ورضوا بقتل عثمان t، ويُعلنون ذلك صراحة.
بدأ هؤلاء القتلة يشعرون بتحييد علي بن أبي طالب t لهم، فخافوا على أنفسهم، وذهب عليٌّ t بمَنْ معه من القوم إلى السيدة عائشة ومَنْ معها، وجاء الليل وبات الفريقان خير ليلة مرَّت على المسلمين منذ أمد بعيد، ونام أهل الفتنة في شرِّ ليلة يُفكِّرون كيف سيتخلَّصون من هذا الصلح الذي سيكون ثمنه هو رقابهم جميعًا، وخطَّطوا من جديد لإحداث الفتنة التي كانت نتيجتها موقعة الجمل.
[1] رواه أحمد (24299) وابن حبان (6732)، وقال شعيب الأرناءوط في التعليق عليهما: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين. وأبو يعلى (4868)، وقال حسين سليم أسد في التعليق عليه: إسناده صحيح. ورواه الحاكم في المستدرك (4613)، وابن أبي شيبة في مصنفه (38926)، وعبد الرزاق في المصنف (20753)، وقال ابن كثير في إسناد آخر للقصة: وهذا إسناد على شرط الصحيحين ولم يخرجوه. انظر: ابن كثير: البداية والنهاية 6/236، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه البزار ورجاله ثقات. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (474)، وقال: وإسناده صحيح جدًّا. ونقل تصحيح الأئمة له: الحاكم وابن حجر والذهبي. أما زيادة: "إِيَّاكِ أَنْ تَكُونِي يَا حُمَيْرَاءُ". فلا تَصِحُّ.
[2] الأدبب: الأدَبّ: وهو الكثيرُ وبَرِ الوجه. الجزري: النهاية في غريب الحديث والأثر 2/203.
[3] الألباني: السلسلة الصحيحة (474).
[4] الأسود بن سريع: هو الأسود بن سريع بن حمير التميمي السعدي، من بني منقر، صحابي غزا مع النبي r وروى عنه، ونزل البصرة، وهو أول من قصَّ بها، وروى عنه الأحنف بن قيس والحسن البصري وعبد الرحمن بن أبي بكرة، شهد معركة الجمل، وتوفي سنة 42هـ=622م. ابن الأثير: أسد الغابة 1/132، وابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة 1/74.
[5] حُجْر بن عدي (ت 51 هـ = 671م): هو حجر بن عدي بن جبلة الكندي، ويسمى حجر الخير، وفد على رسول الله r وشهد القادسية، ثم كان من أصحاب علي t وشهد معه وقعتي الجمل وصفين، وسكن الكوفة وكان شريفًا، أميرًا مطاعًا، ذا صلاح وتعبد. ابن سعد: الطبقات الكبرى 6/217، والذهبي: سير أعلام النبلاء 3/462-467.
[6] أُدِيل عليكم؛ أي: نُصِروا علكهم وكانت الدَّوْلة لهم، والدَّوْلة الانتقال من حال الشدَّة إلى الرَّخاء. ابن منظور: لسان العرب، مادة دول 11/252.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire